أخر الاخبار

قصة – طموح جارية (شجر الدر) | الفصل الحادي عشر (استعداد للقتـــال)

 قصة – طموح جارية (شجر الدر) | الفصل الحادي عشر (استعداد للقتـــال)

قصة – طموح جارية (شجر الدر) | الفصل الحادي عشر (استعداد للقتـــال)


1- إعداد الشعب للجهاد ضد الفرنسيين:

((اهتزت القاهرة ومصر لذلك الخبر، وثارت النفوس كلها ثوة عارمة، ونهضت الألسنة بقوة تٌعبئ القلوب للمعركة، وهُرع الناس إلى المساجد، يستمعون إلى خطب الخطباء، تعرض من كتاب الله وأحاديث رسوله آيات الشجاعة والإقدام، والضرب والطعن والنِّزال والبذل في الله بالمال والأرواح.

هذا يفسر قول الله تعالى:

"يا أيها الذين ءامنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تٌفلحون(45) وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين(46)".

وآخر يشرح قوله تعال:

"خفاقا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم إن كنتم تعلمون".

وفي حلقات أخرى ترتفع الأصوات بالحديث عن غزوات الرسول، وعن بلاء المجاهدين فيها، وعن الشهداء وجزائهم ممن وهبوا أنفسهم لربهم ونالوا ثوابه الجزيل جنات عالية قطوفها دانية.

تسمع آذانهم فيها قول ذي الجلالة: "هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية".

أما المقاهي والمجتمعات الشعبية، فكانت تفيض بأناشيد الحماسة والإقدام وشعراء الربابة على منصاتهم يتدفقون بقصص البطولات العربية في عبارات مؤثرة تثير الدماء في العروق)).

2- تطوع الناس للقاء المعتدين:

((وقد هبَّ الجنود إلى أسلحتهم، وامتلأ جبل (يَشْكُرَ) بالمجانيق التي تجرب لتحمل في السفن، ويذل الناس ما استطاعوا من المال بسخاء وذهب وكثير منهم إلى الأمير حُسام الدين يعرضون عليه أنفسهم ويرجونه أن يأذن لهم في لقاء المعتدين، ولا يحرمهم رضوان، ربهم وجناته، فيختار منهم من يطيق الحرب، فينضمون إلى الجيش فرحين، ويعود غير القادرين باكين منتحبين)).

3- إعداد جيشين (بري وبحري):

((فلما أقبل الحمام بالرسالة التي تبشر بقدوم السلطان، كان كل شيء مُعدًا، ولم تلبث السفن أن أقلعت بالرجال والعدد والمبرة، وقد خرج الجميع لتحيتها، رافعي الأصوات بالدعاء لها بالنصر، واندفع القادرون سائرين على أقدامهم إلى المعركة، والسفن بجانبهم في النهر يسير بعضها خلف، تنتقل من قرية إلى قرية، بين الهتاف والتصفيق، والدعوات الصادرة من القلوب المخلصة، تزيد أعداد من بها كلما تقدمت، وتزداد أعداد الراجلين مثلها، حتى عدت سيلين مسرعين: سيل البحر يشق الماء، وسيل البر يتعجل اللقاء)).

4- اختيار قائد المعركة:

((ولما شاور السلطان شجر الدر فيمن يضطلع بمهمة القيادة اتفقا على إسنادها إلى الأمير فخر الدين ابن شيخ الشيوخ، فاستقدمه السلطان وقلَّده هذا الشرف وتدارس معه الخطة:

- تحشد دمياط بالأسلحة والذخيرة والأقوات يا فخر الدين! تتحاشي كل الأخطاء السابقة التي مكنت الفرنج من الصمود بعض الوقت، حتى فلَّ الله عزائمهم وكسر شوكتهم، وردهم على أعقابهم!

- سمعا وطاعة يا مولاي! يتم كل شيء بإذن الله على ما يُرام، وما يكفل النصر بعونه تعالى.

- أتعرف يا فخر الدين أن الخطأ في العروة السابقة في عهد الملك الكامل، هو أننا لم نزود دمياط بالذخيرة والأقوات، التي تقدرها على الثبات أكثر مما ثبتت؟!

- نعم يا مولاي، ولن يتكرر ذلك الخطأ، فنحن متيقظون لكل شيء نعي كل التجارب ونتحاشى كل الأخطاء!

- وتنزل بجيشك على البر العربي للنيل لتعوق تقدم الفرنج عن الوصول إلى دمياط أتعي ذلك الدرس الذي تعلمناه؟! (لا يلدغ المؤمن من جُحر مرتين) يا فخر الدين.

- نعم يا مولاي، أعي ذلك جيدا، ولن يتكرر الخطأ أبدا، وسيكون كل ما تُحب)).

5- المرض يمنع نجم الدين من قيادة المعركة بنفسه:

((وأطرق السلطان بُرهة ونظر إلى فخر الدين من خلف دموعه المترقرقة في عينيه ثم قال في صوت متهدج:

"كنت أود يا فخر الدين أن أقود المعركة بنفسي وألتقي بالفرنسيين، وأتقرب إلى الله برأس لويس، وقد حاولت إقناع الأطباء بالسماح لي بتلك القيادة، فأبوا إلا بعد السفهاء! ومن يعلم يا فخر الدين!"

أدعو الله أن يمنحني القوة، ويعيني حتى أُشفية صدري من أعداء الله، ولكن كيف، وقد بلغ مني المرض أقصاه؟! كيف أركب برجلي المقطوعة التي حكم عليها المرض اللعين بالبتر؟")).

6- نجم الدين يخشى الفرقة من بعده:

((ثم توجه إلى شجر الدر وقال:

"خائف يا شجر الدر!!"

- "ومم يا مولاي؟! جيوشك قوية مجهزة مستعدة، وحصون دمياط منيعة وعددنا باطشة، والجند المتحمسون طوع إرادتك، وأمراء المماليك رهن إشارتك، والشعب كله من حولك يتقرب إلى الله بماله ودمه، فمم حاف يا مولاي؟! "

فأطبق أجفانه لحظة، ثم نظر إليها، وقال في حزن شديد:

- "أحس النهاية يا شجر الدر! ولست أخشاها، لكني أخاف الفرقة والخلاف من بعدي، وما سينشب بين الأمراء ويُمزق الوحدة التي تقف سدًا منيعًا أمام الأعداء، فكل من حولنا يفكر في الملك كما ترين، وبعد أيام يموت الملك المريض، فمن ترين يصلح لأقيمه هذه الساعة؟"

- "ينبغي ألا نفر من الحقائق، فالموقف لا يتحمل التسويف، والوطن أغلى من أن يدعه نجم الدين دون أن يقيم بدله من يقود السفينة في هذه اللجج، فيذهب بوزر إغراقها!" 

- "سوف تكون من السيوف سيفك، ولك ثواب بقدر الألوف المشمَّرة إلى المعركة حبَّا فيك وانتصارا لله ودينه!")).

7- نجم الدين ينصح فخر الدين:

((فمد يده وشد على فخر الدين وهو يقول في أمل:

- "هذا يوم الله يا فخر الدين!"

- "لا تنظر إلى شيء سوى وجهه، وابعث في جندك من روحك، وتقدمهم إلى الموقف العصيب يسبقوك إليه".

ثم شد على يده مرة أخرى، وهو يقول له محذرًا:

إياك والشائعات وما يُذيع المرجفون! اجعل ما تسمع منها دبر أذنك وتحت قدمك، وأعلم أن الفرنج جبناء رعاديد لم يلتق العرب بهم، إلا نالوا من رءوسهم وأفئدتهم ما يشتهون، لأن العرب يدفعون سيوفهم بأيدي العدوان والطمع ونحن في بلادنا وعلى أرضنا، وهم لصوص جاءوا يخطفون، فقلوبهم خائفة، ونفوسهم وجلة، والأرض تهتز من تحت أقدامهم، لا تثبت إلا بخيانة أو غدر، فاحذر يا فخر الدين وتيقظ، فعلى موقفك يتقرر المصير! .

ثم شد على يده مرة ثالثة، وهو يقول داعيا:

"وفقك الله أيها القائد الشجاع المؤمن وحقق أملنا فيك، وأدام عليك صفحتك الناصعة في سبيل الوطن، فليست هذه أول معركة لك، بل قمة جهادك وبلائك، والله معنا، وكلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله في العليا")).

8- رسالة تهديد من لويس التاسع:

((أقبل رسول الفرنج ومعه رسالة من الملك لويس، فلم يأذن له السلطان وطلب الرسالة، ووقف كاتبه يتلوها عليه قائلا:

"أما بعد، فليس خافيا عليك ما فتحنا من بلاد الأندلس، وأن أهل تلك الجزائر يحملون إلينا الأموال والهدايا ونحن نسوقهم سوق البقر، ونقتل منهم الرجال، ونرمل النساء، ونأسر البنات والصبيان، ونُخلي منهم الديار، وقد أبديت لك ما فيه الكفاية، وبذلت لك النصح إلى النهاية، فلو حلفت لي بكل الأيمان ما ردَّني ذلك عن الوصول إليك، وقتالك في أعز البقاع عليك، وقد عرفتك وحذرتك من عساكر قد حضرت في طاعتي، تملأ السهل والجبل، وعدده كعدد الحصى وهم مرسلون إليك بأسياف القضاء.

ونحن نشرح لك ما فيه الكفاية، وبذلنا لك غاية النصيحة والهداية، أن تحلف لنا بعظائم الأيمان، أن تكون لنا نائبا على مر الأزمان، وتعجل لنا ما عندك من راكب وطرايد وشوانٍ، ولا يكون فيك فترة ولا توانٍ، فتكون قلوبنا راضية عليك، ولا تسوق البلاء إليك، وتكون على نفسك وجيشك قد جنيت، وتعود تقول: يا ليت!")).

9- رد (نجم الدين) على رسالة (لويس التاسع):

((فتلاحقت الناس أنفاس نجم الدين، وهو يصيح بما يستطيع من قوة يأمر الكاتب أن يعجل بالجواب، فغاب الكاتب قليلا ثم عاد يقدم ما كتب والسلطان يرتعد من شدة الغضب، ويقول له:

"اقرأ عليِّ! ألم تُخاطبه بما يستحق ؟!".

فقرأ الكاتب قائلا:

"بسم الله الرحمن الرحيم، وصلوات الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين، أما بعد فقد وصل كتابك، وأنت فيه بكثرة جيوشك وعدد أبطالك، فنحن أرباب السيوف، وما قتل منا قرون إلا جددناه، ولا بغى علينا باغٍ إلا دمرناه، فلو عيناك أيها المغرور حد سيوفنا وعظم حروبنا وفتحنا منكم الحصون والسواحل، وإخرابنا منكم ديار الأواخر والأوائل لكان لك أن تعض على أناملك بالندم ولا بد أن تزل بك القدم، في يوم اوله لنا وآخره عليك فهناك تسئ بك الظنون، (وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون)، إن الباغي له مصرع وبغيك يصرعك، وإلى البلاء يُلقيك .."

فسر السلطان بهذا الردِّ وانطلق به الرسول عائدا إلى الفرنج)).

10- بدء المناوشات وتراجع فخر الدين:

((وما إن بلغهم الكتاب، حتى طارت منهم الألباب وفقد لويس الصواب، وأصدر أمره فبدأت المناوشة بين الجيشين وقلاع دمياط متحفزة وحصونها متطلعة والجنود يترقبون الإشارة بالهجوم على (لويس) وحملته ليبيدوها، وفخر الدين شديد القلق لتأخر الإذن بالاشتباك، يقول لنفسه في شك:

"لم تأخرت رسائل السلطان؟! أًصل الحمام أم وافت السلطان منيته؟! ومن الذي وثب على الملك بعده؟! 

ألم يعرف أن الحملة قد ألقت مراسيها عند دمياط، وأنها بدأت المناوشة ويعدها الهجوم؟!".

واشتدت حيرته فيما يصنع، أيبقى ويلتحم بالفرنج، أم يسير إلى أشموم طناح؛ ليرى ما صنع الله بالسلطان، وأين اتجهت دفة الأمور، ثم أدت له ظنونه أن السلطان قد مات، وأن المعركة قد دارت بين الأمراء على اقتسام الغنيمة، ولا ينبغي البقاء بجنوده أمام الفرنج بدمياط، وأن مكانا آخر قد يكون أكثر عونا على النصر، ولا بد أن يشارك في اختيار السلطان الجديد، القادر على مواجهة هذا الموقف الدقيق، فقرر أن يسرع إلى أشموم طناح.

كان الليل يتقدم، وفخر الدين يتقهقر بجنوده إلى دمياط، عابرا الجسر، ثم غادرها يمن معه إلى أشموم طناح)).

11- ذُعر أهل دمياط والقاهرة:

((وسرى الخبر إلى دمياط، ففزعت أشد الفزع، وهب النائمون في ذعر وحملوا ما استطاعوا من أمتعتهم، ثم خرجوا هائمين على وجوههم والرضَّع على أكتافهم يصرخون، والشيوخ والصغار يتعثرون والمرضى يئنون.

فزع أهل القاهرة لما رأوا وما سمعوا، وأقبل بعضهم على بعض يتشاورون وهبَّ حُسام الدين ابن الشيخ يهدئ من روعهم، وأسرع الخطباء والعلماء إلى المساجد والمجتمعات يثبتون قلوبهم، ويؤكدون لهم أن العبرة بالخاتمة لا بالمقدمة، ويقصُّون عليهم من أنباء الغزوات، ما نزل فيه المسلمون زلزالا شديدا، ثم أتى نصر الله فهزم الأعداء ودُفِعَ الباطل واندحر الباغون!

ولم يزالوا بهم حتى هدءوا وأفاقوا، وانقلب خوفهم أمنًّا وقوة، ثم اشتعل حماسة وثورة ثم انتهى إلى أن يلحق القادرون بإخوانهم المجاهدين.

أما نجم الدين فغضب غضبا شديدا، ودعا بفخر الدين ومن كان معه من الأمراء وقدمهم إلى محكمة من العلماء لتحاكمهم بسبب فرارهم من ميدان القتال.

أمَّا الفرنج فقد احتلوا دمياط بعد أن غادرها الجيش وهجرها أهلوها)).

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق



    وضع القراءة :
    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -